الخير في تعلم القرآن وتعليمه
لا مجرد حفظه وتحفيظه
أ-روى البخاري في صحيحه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته ـ قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وفي رواية له: "إن أفضلكم من تعلم القرآنوعلمه".
وفَقُهَ أصحابُه رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلونمجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعملبهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صلى الله عليهوسلم عن ختم القرآن في أقل من سبع (عند الشيخين) وثلاث (عند غيرهما) لأنه لن يتحققتدبره وفقهه.
ب-وأنزل الله كتابه على قلب نبيه مفرقاً رحمةلعباده ونوراً لهم: {لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِوَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. واستعجل المشركون التنزيلجملة واحدة فرد الله كيدهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوالَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِفُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} [الفرقان: 32] أي: بيناه تبيينًا (قالهقتادة) بتنزيله شيئاً بعد شيءٍ بتمهُّل وتؤدة (كما قالالمحلِّيُّ).
واتَّبع النبي صلى الله عليه وسلم شرع ربه فرتل القرآن ترتيلاً؛ يقف علىرؤوس الآي (رواه أبو داود وغيره) ولم يرو عنه الجمع بين آيتين قط. وكان (فيما رواهمسلم في صحيحه) يقرأ القرآن (مسترسلاً إذا مرَّ بآية فيها تسبيحسبَّح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مرَّ بتعوذ تعوذ)، ولا يصحُّ قصر ذلك على صلاةالليل بل هو عام في الصلاة وفي غيرها، إذ لم يرد مخصص. وكان صلى الله عليه وسلميقول: "آمين" بعد قراءة الفاتحة (رواه البخاري) ويأمر المأمومين بقولها (متفقعليه)، وكان إذا قرأ : {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىأَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قال: "سبحانكفبَلَى" وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَالأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "سبحان ربي الأعلى"؛قال المحدِّث الألباني في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم): (وهو يشمل القراءةفي الصلاة وخارجها والنافلة والفريضة، وقد رواه ابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعريوالمغيرة أنَّهما كانا يقولان ذلك في الفريضة ورواه عن عمر وعلي إطلاقًا). وكان صلىالله عليه وسلم: (يمد قراءته مدًّا، يمدُّ: ببسم الله، ويمدُّبالرحمن، ويمدُّ بالرحيم)، رواه البخاري. وكان يقرأ قراءةً: (مفسرة حرفًا حرفًا) رواه أحمد وأبوداود.
جـ-وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنانسفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" واللفظ لمسلم، وفي رواية: "لا يجاوز تراقيهم" وفي رواية: " ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولاصيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم" من صحيحمسلم. فمجرد التلاوة والحفظ دون تدبر (وهو أكبرُ هَمِّ الحفاظ والمحفِّظين اليوم) مخالف لشرع الله ولسنة رسوله ولسبيل المؤمنين القدوة، لجأ إليه الأعاجم بمسوغالعجمة، وتبعهم العرب في القرن الأخير دونمسوغ.
د-وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظالقرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صلى اللهعليه وسلم مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنينمنهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهمبالقرَّاء لا يعني حفظه كله. ويؤيد ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن منبعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/75. ومثله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من قوله: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذهالأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامعلأحكام القرآن 1/76.
هـ- وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميعبلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرضللحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك فيالعتبية).
وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في صحيح ابنماجه). وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيانمشكل الآثار للطحاوي 4/44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضيالله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/76، ط: دار الكتاب العربيبيروت).
و-قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاحدار السعادة لابن القيم (1/187 مكتبة الرياض الحديثة.) وقال ابن القيم رحمه الله فيتفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفينلكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهموتدبر) فتح القدير 1/104.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِأُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامهويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غيرتأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروابآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولميفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر. وقال ابنالقيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَالرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَمَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبرهوتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير). وقال ابن كثير: (وترك تدبره وتفهمهمن هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 67. وقال ابن القيم رحمه الله فيتفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلا يَضِلُّوَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله علىأهلها... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه... وتلاوة المعنى أشرف منتلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دارالسعادة 1/42. وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءةختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)، وروي عنأيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث،قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحبإلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/187. وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن منأهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/55)
ويظهر من مجموع هذه الآثار والأقوال أن الانحراف عن شرع الله وسنة رسولهوسبيل المؤمنين بالانشغال بحفظ القرآن عن تدبره وفقه مراد الله منه ظهر في القرنالأول فتقرب من لم يجاوز القرآن تراقيهم إلى الله بالخروج على ولاة الأمر منهم بلقتل خير أولياء الله: عثمان وعلي رضي الله عنهما، وتقرب المحدثون منهم بالخروج علىولاة أمرهم وقتل أنفسهم وقتل نفوس حرم الله قتلها بغير حق. واليوم تستدر عواطفالمحسنين بتحفيظ القرآن أو الحديث في (60) يومًا فماذابعد؟
ز-وبعث الله دولة التوحيد والسنة ومنهاج النبوة فيالدين والدعوة لتجديد دينه بالعودة به إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه (بعد أن اجتالت شياطين الفاطميين والعثمانيين ومن بينهما الناس عن الفطرةالتي فطرهم الله عليها) فاهتم علماؤها بتعليم الأمة دينها الحق وردها إلى تدبرالقرآن، ولم يهتم أحد منهم بمجرد الحفظ والتحفيظ الذي هو مبلغ علم وتعبد الجاهلينمن عوام العجم ثم العرب.
وجاء ما يسمى (الصحوة الإسلامية) التي غلب عليها الفكر والعاطفة والشكل ونأتعن علوم الشريعة وعلمائها فانتشرت بدعة التحفيظ المجرد عن التدبر والتفقه في الدينتحت أسماء: (مكتبات المساجد)، و(دور القرآن)، و(جمعيات التحفيظ)، و(جمعيات المحافظةعلى القرآن). وركبها الحزبيون والحركيون والجهاديون في سبيل الهوى، وجامعواالتبرعات لأغراض شتى؛ أكثرهم يحسبون أنهم مهتدون ولكنهم مخالفون لشرع الله وسنةرسوله وسبيل المؤمنين في الدعوة إلى كتاب الله والعملبه.
واختار ولاة الأمر في دولة التوحيد والسنة (بتوفيق الله لهم) إنشاء مدارسباسم تحفيظ القرآن على منهاج النبوة تقدم لأبناء وبنات المسلمين العلوم الشرعيةأولاً، وثانياً: حفظ القرآن {على مُكثٍ} بحيث يتعلم الطفل الإيمان ثم يتعلم القرآنكما فعل الصحابة رضي الله عنهم. وفيما يتعلق بحفظ القرآن فإنه يتم في تسع سنوات (ابتدائية ومتوسطة) وتخصص السنوات الثلاث الأخيرة (الثانوية) لمراجعة الحفظ. واليومبفضل الله توجد في المملكة المباركة (حسب إحصائية تلقيتها من وزارة التربيةوالتعليم): (850) مدرسة للبنين و(1015) مدرسة للبنات يتعلم فيها: (124,627) طالبوطالبة إضافة إلى حلقات التحفيظ الاختيارية التي تقدمها مدارس الوزارة الأخرى ضمنالنشاط المدرسي الإضافي، ولا يقل عدد المشتركين فيها عن عدد طلاب مدارس التحفيظالحكومية. فلم تعد هناك حاجة لجمعيات التحفيظ المبتدعة. وفي مدارس التحفيظ وحلقاتهالتابعة لوزارة التربية والتعليم ما يكفي لتحقيق طموح الناشئ لتعلم القرآن تدبراًوفقهاً ثم حفظاً ويغني عن جمعيات التحفيظ المجرد من التدبر التي ابتدعها عابدباكستاني جاهل بشرع الله فتلقفها في المملكة المباركة العاطفيون والحركيونوالحزبيون. وفي المدارس الحكومية يسهل الإشراف المباشر عليها لتجنب أو تقليل ما يجبالحذر منه من معاصي الشبهات والشهوات التي عانت منها أجهزة الأمن وهيئات الأمروالنهي. أما البدعة الجديدة: حفظ القرآن أو الحديث في (60) يوماً فمجانبة للشرعوالعقل.
لا مجرد حفظه وتحفيظه
أ-روى البخاري في صحيحه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته ـ قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وفي رواية له: "إن أفضلكم من تعلم القرآنوعلمه".
وفَقُهَ أصحابُه رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلونمجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعملبهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صلى الله عليهوسلم عن ختم القرآن في أقل من سبع (عند الشيخين) وثلاث (عند غيرهما) لأنه لن يتحققتدبره وفقهه.
ب-وأنزل الله كتابه على قلب نبيه مفرقاً رحمةلعباده ونوراً لهم: {لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِوَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. واستعجل المشركون التنزيلجملة واحدة فرد الله كيدهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوالَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِفُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} [الفرقان: 32] أي: بيناه تبيينًا (قالهقتادة) بتنزيله شيئاً بعد شيءٍ بتمهُّل وتؤدة (كما قالالمحلِّيُّ).
واتَّبع النبي صلى الله عليه وسلم شرع ربه فرتل القرآن ترتيلاً؛ يقف علىرؤوس الآي (رواه أبو داود وغيره) ولم يرو عنه الجمع بين آيتين قط. وكان (فيما رواهمسلم في صحيحه) يقرأ القرآن (مسترسلاً إذا مرَّ بآية فيها تسبيحسبَّح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مرَّ بتعوذ تعوذ)، ولا يصحُّ قصر ذلك على صلاةالليل بل هو عام في الصلاة وفي غيرها، إذ لم يرد مخصص. وكان صلى الله عليه وسلميقول: "آمين" بعد قراءة الفاتحة (رواه البخاري) ويأمر المأمومين بقولها (متفقعليه)، وكان إذا قرأ : {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىأَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قال: "سبحانكفبَلَى" وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَالأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "سبحان ربي الأعلى"؛قال المحدِّث الألباني في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم): (وهو يشمل القراءةفي الصلاة وخارجها والنافلة والفريضة، وقد رواه ابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعريوالمغيرة أنَّهما كانا يقولان ذلك في الفريضة ورواه عن عمر وعلي إطلاقًا). وكان صلىالله عليه وسلم: (يمد قراءته مدًّا، يمدُّ: ببسم الله، ويمدُّبالرحمن، ويمدُّ بالرحيم)، رواه البخاري. وكان يقرأ قراءةً: (مفسرة حرفًا حرفًا) رواه أحمد وأبوداود.
جـ-وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنانسفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" واللفظ لمسلم، وفي رواية: "لا يجاوز تراقيهم" وفي رواية: " ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولاصيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم" من صحيحمسلم. فمجرد التلاوة والحفظ دون تدبر (وهو أكبرُ هَمِّ الحفاظ والمحفِّظين اليوم) مخالف لشرع الله ولسنة رسوله ولسبيل المؤمنين القدوة، لجأ إليه الأعاجم بمسوغالعجمة، وتبعهم العرب في القرن الأخير دونمسوغ.
د-وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظالقرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صلى اللهعليه وسلم مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنينمنهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهمبالقرَّاء لا يعني حفظه كله. ويؤيد ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن منبعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/75. ومثله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من قوله: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذهالأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامعلأحكام القرآن 1/76.
هـ- وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميعبلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرضللحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك فيالعتبية).
وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في صحيح ابنماجه). وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيانمشكل الآثار للطحاوي 4/44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضيالله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/76، ط: دار الكتاب العربيبيروت).
و-قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاحدار السعادة لابن القيم (1/187 مكتبة الرياض الحديثة.) وقال ابن القيم رحمه الله فيتفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفينلكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهموتدبر) فتح القدير 1/104.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِأُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامهويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غيرتأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروابآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولميفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر. وقال ابنالقيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَالرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَمَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبرهوتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير). وقال ابن كثير: (وترك تدبره وتفهمهمن هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 67. وقال ابن القيم رحمه الله فيتفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلا يَضِلُّوَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله علىأهلها... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه... وتلاوة المعنى أشرف منتلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دارالسعادة 1/42. وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءةختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)، وروي عنأيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث،قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحبإلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/187. وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن منأهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/55)
ويظهر من مجموع هذه الآثار والأقوال أن الانحراف عن شرع الله وسنة رسولهوسبيل المؤمنين بالانشغال بحفظ القرآن عن تدبره وفقه مراد الله منه ظهر في القرنالأول فتقرب من لم يجاوز القرآن تراقيهم إلى الله بالخروج على ولاة الأمر منهم بلقتل خير أولياء الله: عثمان وعلي رضي الله عنهما، وتقرب المحدثون منهم بالخروج علىولاة أمرهم وقتل أنفسهم وقتل نفوس حرم الله قتلها بغير حق. واليوم تستدر عواطفالمحسنين بتحفيظ القرآن أو الحديث في (60) يومًا فماذابعد؟
ز-وبعث الله دولة التوحيد والسنة ومنهاج النبوة فيالدين والدعوة لتجديد دينه بالعودة به إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه (بعد أن اجتالت شياطين الفاطميين والعثمانيين ومن بينهما الناس عن الفطرةالتي فطرهم الله عليها) فاهتم علماؤها بتعليم الأمة دينها الحق وردها إلى تدبرالقرآن، ولم يهتم أحد منهم بمجرد الحفظ والتحفيظ الذي هو مبلغ علم وتعبد الجاهلينمن عوام العجم ثم العرب.
وجاء ما يسمى (الصحوة الإسلامية) التي غلب عليها الفكر والعاطفة والشكل ونأتعن علوم الشريعة وعلمائها فانتشرت بدعة التحفيظ المجرد عن التدبر والتفقه في الدينتحت أسماء: (مكتبات المساجد)، و(دور القرآن)، و(جمعيات التحفيظ)، و(جمعيات المحافظةعلى القرآن). وركبها الحزبيون والحركيون والجهاديون في سبيل الهوى، وجامعواالتبرعات لأغراض شتى؛ أكثرهم يحسبون أنهم مهتدون ولكنهم مخالفون لشرع الله وسنةرسوله وسبيل المؤمنين في الدعوة إلى كتاب الله والعملبه.
واختار ولاة الأمر في دولة التوحيد والسنة (بتوفيق الله لهم) إنشاء مدارسباسم تحفيظ القرآن على منهاج النبوة تقدم لأبناء وبنات المسلمين العلوم الشرعيةأولاً، وثانياً: حفظ القرآن {على مُكثٍ} بحيث يتعلم الطفل الإيمان ثم يتعلم القرآنكما فعل الصحابة رضي الله عنهم. وفيما يتعلق بحفظ القرآن فإنه يتم في تسع سنوات (ابتدائية ومتوسطة) وتخصص السنوات الثلاث الأخيرة (الثانوية) لمراجعة الحفظ. واليومبفضل الله توجد في المملكة المباركة (حسب إحصائية تلقيتها من وزارة التربيةوالتعليم): (850) مدرسة للبنين و(1015) مدرسة للبنات يتعلم فيها: (124,627) طالبوطالبة إضافة إلى حلقات التحفيظ الاختيارية التي تقدمها مدارس الوزارة الأخرى ضمنالنشاط المدرسي الإضافي، ولا يقل عدد المشتركين فيها عن عدد طلاب مدارس التحفيظالحكومية. فلم تعد هناك حاجة لجمعيات التحفيظ المبتدعة. وفي مدارس التحفيظ وحلقاتهالتابعة لوزارة التربية والتعليم ما يكفي لتحقيق طموح الناشئ لتعلم القرآن تدبراًوفقهاً ثم حفظاً ويغني عن جمعيات التحفيظ المجرد من التدبر التي ابتدعها عابدباكستاني جاهل بشرع الله فتلقفها في المملكة المباركة العاطفيون والحركيونوالحزبيون. وفي المدارس الحكومية يسهل الإشراف المباشر عليها لتجنب أو تقليل ما يجبالحذر منه من معاصي الشبهات والشهوات التي عانت منها أجهزة الأمن وهيئات الأمروالنهي. أما البدعة الجديدة: حفظ القرآن أو الحديث في (60) يوماً فمجانبة للشرعوالعقل.